الخميس، 3 فبراير 2011

"المشاية" شعيرة ولا كل الشعائر!

هل سمعتم عن "المشاية" الى كربلاء في أربعينية الامام الحسين عليه السلام؟
بالتأكيد سمعتم بها، خاصة مع النقل المكثف للمناسبة من قبل القنوات التلفزيونية التي اولت مناسبة الاربعين اهتماماً خاصاً..
ولكن ان تسمع بالشيء ليس كما تراه.. إنه شيء يفوق التصور، ويصعب على التحليل، ويعجز عن التفسير.. ولعل كل واحد من اولئك الـ 10 او الـ 15 مليون من المشاركين في مسيرة المشاية لديه تفسيره وسببه الخاص، وإن اجمعوا على عشق وحب وتفاني في الحسين عليه السلام.
ولو قام احد بتسجيل تفاصيل ما يجري في هذا الكرنفال الكبير لاحتاج الى كتاب من مئات الصفحات، ومع أن الكثير منه شاهده الناس عبر الفضائيات او قرأوه في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، إلا أن هناك امور لعلها لا تمحى من ذهن المعايش لهذه المسيرة المليونية..
من النجف الأشرف الى كربلاء المقدسة ثلاثة ايام من المشي والاستراحة والاكل والصلاة.. فيها لا تشعر بالحاجة الى الماء او وجبات الأكل أو التحلية بعد الأكل أو المكان للمنام او المكان للصلاة والاستراحة وغيرها.. كل شيء متوفر.. في أي مكان وفي كل مكان وفي أي زمان وفي كل زمان.. أي لا تحتاج لأن تمشي خطوات أخرى لتحصل على مكان للنوم او طعام او غير ذلك .. إلا إذا أردت ان تفاضل في اختياراتك!
وهناك ترى فنون الخدمة التي يقدمها المتطوعون، بل تجد التسابق لتقديم الافضل.. وبكل رحابة صدر وأريحية وتفاني وحب وطاعة وتذلل.. وكأنك الخادم وهو المخدوم!
هناك من نصب المواكب وتطوع المئات في الخدمة في موكبه ليقدم آلاف الوجبات ومكان يسع المئات.. وهناك من لم يجد إلا لسانه يبذل فيه بالكلام العذب ليشجع الزائرين على مواصلة المسير.. وهذا بحد ذاته فن من فنون الخدمة التي تشاهدها في مسيرة المشاية وهو فن التشجع!
فتجد الرجل ذو الهيبة.. شيخ عشيرة أو صاحب شهادة عليا أو رجل دين او انسان عادي يملك الكلمات الجميلة المشجعة.. فيقف على اطراف الطريق ويقوم بالتشجيع بكل من يملك من أدب الحب والعشق في قاموسه الخاص.. وانت تشعر وانت تسمع له وكأنك ملكت الجنان، وحزت الغنيمة من مشاركتك في هذه الشعيرة.. فتزداد عزيمة، ويخف عليك وطأة التعب والصعاب التي تمرّ بها..
ومن فن التشجيع الى فن التسابق على تقديم الأفضل.. هل رأيت معطياً بالمجان يتوسل بمن يأخذ منه عطاءه؟! أو معطياً بالمجان يدلل على عطاءه؟!
هذا ما تزخر به طرق المشاية، بل انك تشعر وكأن هذا المعطي يريد منك العطاء، لا أن يعطيك مما جادت به نفسه.. نعم هم يبذلون باعتقاد كامل بأن من يأخذ منهم هو المتفضل عليهم! متمثلين دائماً بقول شاعرهم:
كل الخدم شفناها تنهان بالعين
بس بكرامة تعيش خدام الحسين
أو قول شاعرهم:
كل خدمة تنقاس ذلة وندامة
بس خدمة أهل البيت عزة وكرامة
فحين يحين وقت تقديم الطعام في الموكب يذهب عدد من المتطوعين ليقفوا في وسط طرق المشاية ويفرشون ايديهم.. يترجون الناس ليدلفوا على موكبهم ويأكلوا من زادهم.. وهناك من يبدأ بعمل الدعاية لأكلهم.. فيدعوا الناس لنوع الطعام الذي يقدموه وميزاته ويطلبون برجاء من الناس ليأكلوا عندهم!
وكل ما يؤكل في الطريق لذيذ، فقط انت في بعض الاوقات تختار الألذ مما يقدم.. وكثيراً ما تأكل مما يطبخ في البيوت، بعضها من عليه القوم وبعضها من بيوت المستضعفين.. فعدد المواكب فقط في طريق النجف – كربلاء لا يقل عن 5000 آلاف موكب خدمي، بمعنى ان هناك ما لا يقل عن 5000 طباخ و10000 مساعد طباخ، طبعاً جميعهم متطوعون!
ومن يخدم في الطريق ليس فقط من ابناء الطبقة المستضعفة من الناس، بل تجد الأطباء والمهندسين واصحاب الشهادات العليا والتجار وشيوخ العشائر والوجهاء والمثقفين والكتاب والاعلاميين وغيرهم.. هي مائدة ربانية تذوب فيها الفوارق ويتحد كل الناس في بوتقة خدمة زوار ابي عبد الله الحسين عليه السلام.
وفي طريق المشاية، تجد خدمات مجانية غريبة، ولا تخطر على بال أحد!
• أحدهم افترش جانباً من الطرق وكتب لوحة لمن يريد تصليح عربات الاطفال، فتقف النساء ممن جلبوا أطفالهم بعربات ليصلحوا ما كسر من العربة.. وبكل خبرة وتفاني يعمل هذا المتطوع على مدار الساعة لاصلاح مئات العربات يوميا!
• مجموعة من الاسكافية اتخذوا مكاناً على الطريق، وجلبوا ماكنات تصليح الشنط والأحذية، وكتبوا لوحة " اسكافي مجاناً" ليقف من تمزقت شنطته او حذاءه فيقوم اولئك المتطوعون بخياطة واصلاح ما تمزق بالطريق!
• خدمة التدليك المجاني: وهو من عجائب طريق المشاية، فتجد مجموعة فقط عملهم ان يتلقوا الزائرين فيجلسوهم ثم يقومون بتدليكهم وغسل ارجلهم ومداواتهم اذا احتاجوا للمداواة!
• الاتصالات المجانية: فهناك بين الحين والآخر يقف بعض المتطوعين وأمامه طاوله ليوفروا اتصالات ارضية وجوالة بالمجان للزائرين.
• شحن للهواتف والموبايلات: وهو كثيرا ما تجده في الطريق هناك من عمل لوحة خشبية عليها مجموعة من موزعات الكهرباء مع كراسي ليستريح عليها الزائر وهو ينتظر تلفونه يشحن!
• امرأة كبيرة بالسن كانت تقف امام منزلها المقابل لطريق المشاية وكل ساعة او ساعتين تقوم بكنس الطريق المقابل لبيتها.. وكأن بذلها وعطاءها هو تنظيف الطريق للمشاية!
• امرأة كبيرة بالسن، كانت تسخِّر اولادها ليقوموا بمساعدة بعض المشاية الذين يحملون اغراض معهم.. فكانوا يحملون معهم لكيلو متر أو أكثر ثم يعودوا ادراجهم ويكرروا العملية مع زائر آخر!

هذه بعض المشاهدات، وهناك المئات مما يروى ويقص بين الزائرين، ويبقى سؤال يحير كل من عايش هذه التجربة، من اين يأتي الزاد الذي يصرف على الناس باستفاضة؟ من أين يأتي اصحاب المواكب بالمأكل والمشرب الذي يفيض على حاجة اولئك المشاركين في المسيرة المليونية ولمدة 15 يوم او يزيد؟
كم وجبة طعام صرفت؟ كم قطعة فاكهة وزعت؟ كم علبة عصير او ماء سقي به المشاية؟ كم بطانية تلحف بها المشاركون بالمشاية؟ كم علم مرفوع في المسيرة؟ كم علم منصوب على الطرقات؟ كم هيئة او موكب خدم في الطريق؟ كم شخص تطوع للخدمة في الطريق الى كربلاء؟ كم ساعة تطوع صرفت في هذه الشعيرة؟
الدولة العراقية لم تشارك في مجمل هذه الخدمات، وهذا بتصريح واضح من اصحاب المواكب والهيئات، فلم تصرف اموال الدولة العراقية او اي دولة اخرى لتهيئة مثل هذه الخدمات.. اذن من أين جاءت هذه الاموال المليونية؟ وكيف أمنها اصحاب المواكب وأكثرهم من المستضعفين البسطاء؟
لتلك الاسئلة رواية عشق خاصة.. قد لا نستطيع فهمها.. وقد تبقى اجاباتها مجهولة.. ولكنها تروي جزءاً من قصة "البركة" التي تفيض بها زيارة الاربعين.. أو لعلها تفسر قصة "الثريد" وبني هاشم حينما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الرواية المعروفة في التاريخ.. أو هي افاضات تقصر عن فهما العقول الصغيرة.. هكذا تصبح "المشاية" شعيرة ولا كل الشعائر..

هناك تعليق واحد:

  1. السلام على الحسين الشهيد الذي حير العقول والألباب ، حيث أن بموته بعث الحياة لملايين العاشقين كلهم يهتفون " لبيك يا حســـــــين"

    ردحذف